الشيخوخة... ونظرية التطور

قبل ولادة نظرية التطور كان ينظر إلى الشيخوخة كما ينظر إلى الآلة التي تبلى وتتآكل أجزاؤها مع مرور الزمن، أما بعدها فقد بدأ العلماء يتساءلون عن السبب الذي حدا بالتطور لإنتاج كائناتٍ حيةٍ على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والقدرة على التكيف، وناجحةٍ إلى حد بعيد في البقاء من الولادة إلى الكهولة، لكنها تسقط بعدئذٍ في هاوية التفسخ والموت؛ فشرعوا يبحثون عن الإجابات المحتملة وقادهم بحثهم إلى نظريات عدة.
قُدمَت أولى النظريات في ثمانينات القرن التاسع عشر وطرحت فكرة الموت المبرمج التي تفترض وجود منفعةٍ تطوريةٍ ما من محدودية فترة الحياة، حيث يؤدي موت الأفراد ذوي العمر المتقدم إلى الحد من التنافس مع الأفراد الشابة على الطعام وغيره من الموارد؛ ثم عززت التجارب المخبرية هذه الفكرة عندما أثبتت وجود حد بيولوجي لعدد المرات التي تستطيع فيها الخلية الحية الانقسام، أي أن التطور قد وضع سقفاً لفترة حياة العضوية الحية.
لكن تتوافر اليوم أدلة كثيرة ضد هذه النظرية، منها ما لاحظه بعض الباحثين من أن الحيوانات التي تعيش في الظروف القاسية للحياة البرية تعيش فترةً أقصر من تلك التي تعيش في الظروف المريحة لحياة الأسر؛ على سبيل المثال، من بين كل عشر فئران برية، يموت تسعة قبل بلوغ سن عشرة أشهر، في حين يصل معدل حياة الفئران في الأسر إلى 24 شهراً، وفي الواقع، لا تعيش معظم الحيوانات البرية فترة حياةٍ طويلة كفاية لتبرر نشوء ضغطٍ تطوري يضع حداً لفترة الحياة.
كذلك تظهر بعض الدراسات أنه عندما تتقدم حيوانات الأسر في العمر لا يعود هناك عمرٌ محددٌ تموت فيه، وفي الحقيقة، يبدأ معدل الموت بالنسبة للكثير من الحيوانات بالتناقص كلما ازداد التقدم في العمر، وهذا يناقض تماماً ما هو متوقع فيما لو كان الموت مبرمجاً.
أما نظرية الطفرات المتراكمة فقد برزت إثر الأبحاث المخبرية التي أجريت في أواخر الخمسينات من القرن العشرين والتي أظهرت أنه عندما عرِّضت ذبابة الفاكهة لظروفٍ خطرةٍ بحيث يبلغ عددٌ قليلٌ جداً منها عمراً متقدماً، فإن الانتخاب الطبيعي فضل منها الأفراد التي تتناسل في أعمار أصغر؛ بعد عدة أجيال، وعندما جعلت الظروف أكثر أمناً وماتت الذبابات من الشيخوخة، لوحظ بأن فترة حياة أفراد هذه المجموعة أصبحت أقصر.
يوضح ذلك أن العمر الذي تتناسل فيه العضوية الحية هو أكثر العوامل أهمية في تحديد طول فترة حياتها، حيث تبدأ عملية الشيخوخة عادةً بعد انتهاء المرحلة التي تكون فيها العضوية قادرةٌ على التناسل، وعندها يتضاءل الضغط التطوري لمقاومة الأمراض والانحلال الخلوي والعلامات الأخرى للشيخوخة والتي تقود إلى الموت الطبيعي.
على سبيل المثال، الطفرة الجينية التي تقتل طفلاً سوف لن تمر إلى الجيل التالي إلا نادراً، أما الطفرة التي تقتل الأشخاص فوق سن الستين فقط فمن المحتمل أن تمر إلى جميع أفراد المجموعة عبر الزمن. بهذه الطريقة، تتراكم عبر الزمن العديد من الشذوذات الجينية التي تسبب التراجع الذي يشاهد مع تقدم العمر.
إذا ما كان هناك أي ضغط تطوري بعد انتهاء مرحلة التناسل فلا بد أنه سيكون مرتبطاً بالدور الذي يلعبه الآباء في بقاء أطفالهم. تبرز أهمية ذلك لدى الأنواع التي تطول فيها فترة الرعاية الأمومية للأطفال قبل بلوغهم سن النضج، وسوف تزداد فترة حياة هذه الأنواع بالتناسب مع درجة إسهام الآباء في حياة أطفالهم.
من النظريات الأخرى عن الشيخوخة نظريةٌ تفترض أن بعض الطفرات التي تساعد الصغار على البقاء، وهي تكون ذات ضغطٍ انتخابي عالٍ لذلك السبب، قد تملك تأثيراتٍ جانبيةً سلبيةً تكون مؤذيةً في العمر المتقدم. كما تقترح أخرى بأن ندرة الطعام في الظروف القاسية للحياة البرية تجبر الكائنات على استهلاك المخزون القليل الذي تمتلكه من الطاقة في البقاء والتناسل بدلاً من استهلاكه في الإصلاح والصيانة. في حين تركز نظريات أخرى على الضرر العشوائي الذي يلحق بالخلية بسبب المواد الكيماوية الموجودة في الطعام، والسموم البيئية، والإشعاعات في الجو، وقد عُزِّز بعض هذه النظريات بالأدلة التجريبية التي تثبت أن الإقلال من الطعام قد يبطئ من عملية الشيخوخة ويطيل فترة الحياة.
لا يعتقد علماء الأحياء أن نظريةً واحدةً قادرةٌ على تقديم كامل الأجوبة، بل ينظرون إلى عملية الشيخوخة على أنها متعددة الأسباب، وسيبقى الحد الذي تساهم فيه كل نظرية فعلياً في عملية الشيخوخة موضوعاً للبحث العلمي المستمر.   
 

د. أيهم أحمد