الانتحار... قوة في لحظة ضعف؟

تصنيف أولي: 

كلمة حكيملاشك في أن فعل الانتحار فعلٌ مذموم من الناحيتين الدينية والاجتماعية، إذ أن جميع الأديان تحرم الانتحار بذريعة أنه قتل للنفس الإنسانية، وهذه النفس خلقها الله وهي بالتالي ملك له وحده وهو صاحب الحق في استعادتها ساعة يشاء؛ أما اجتماعياً فينظر إلى الانتحار على أنه تعبيرٌ عن ضعف إرادة المنتحر وعجزه عن مواجهة صعوبات الحياة؛ لكن هل سبق لأحد أن تناول الانتحار من منظور الطبيعة ونظرية التطور؟ هذا ما سأحاول مقاربته في السطور التالية.

الانتحار بالتعريف هو قيام الفرد بإنهاء حياته بشكل إرادي وفي توقيت يختاره بنفسه؛ لعلنا نلاحظ أولاً أن فعل الانتحار ينطوي على سمتين أساسيتين من سمات الإنسان وهما الإرادة والحرية، فالمنتحر يمارس بانتحاره فعلاً إرادياً تاماً بل لعله أكثر الأفعال الإنسانية "إرادية" باعتباره إنهاءً للحياة وبالتالي لجميع مظاهرها الإرادية وغير الإرادية، أي أنه فعل يتربع على قمة الإرادة الإنسانية؛ أما السمة الثانية، أي الحرية، فتتضح عندما نلاحظ أن المنتحر يقوم باختيار توقيت معين لإنهاء حياته ويمارس بذلك حريته كاملة في أمر هو من أصعب الأمور القسرية التي فرضت على الإنسان و ليس له أي حرية فيه، أي الموت.

لا يختار الإنسان، ولا أي كائن حي، أمر قدومه إلى الحياة فهذا منوطٌ كما هو معروف بإرادة والديه بشكلٍ مباشر، وبالطبيعة في سياق التطور بشكلٍ غير مباشر؛ بالمثل، ليس الموت عادةً خياراً مفضلاً للإنسان بل هو أمر غير مرغوب وغالباً ما يسعى الإنسان لتجنبه بجميع الوسائل الممكنة، لكنه مفروض عليه بشكلٍ طبيعي وجل ما يستطيع الإنسان أن يفعله هو أن يؤخر توقيته في بعض الحالات (كمعالجة المرض مثلاً).

لماذا وجدت الحياة، ولماذا حُدَّت هذه الحياة بفترة زمنية معينة (تتباين بين الأنواع الحية) تنتهي بعدها وتزول، أسئلة قد تكون الإجابات عنها غير ممكنة في حدود معارفنا الحالية، لكن ما يهمنا الآن هو أن الحياة، أي حياة، تسعى لبذل كل ما في وسعها لكي تبقى موجودة طيلة تلك الفترة الزمنية المحددة مسبقاً وهذا ما يسمى في الطبيعة بصراع البقاء، كما تسعى لاستنساخ ذاتها باستمرار في كائنات حية جديدة وهذا ما يسمى بالتكاثر؛ بكلمات أخرى، تُصنَّفُ الحياة من وجهة نظر الطبيعة على أنها حدثٌ إيجابي وفعال وهي ميزة لصاحبها، في حين ينظر إلى انتهاء الحياة، أي الموت، على أنه حدثٌ سلبي ومنفعل وهو أذىً لصاحبه، وهذا ما يجعل الإنسان يسعى بدأب لإطالة فترة الحياة والمحافظة عليها بقدر استطاعته فيما يتجنب الموت ويحاول تأخيره كلما كان بإمكانه ذلك.

من هذه الوجهة يبدو الانتحار فعلاً مخالفاً للطبيعة بشكلٍ صارخ لأنه يعاكس فطرتها تماماً في أنه لا يبدي اهتماماً كبيراً بالاحتفاظ بالحياة بل بالعكس يعمل على إنهائها قبل أوانها الطبيعي ويشذ عن قاعدة صراع البقاء، لكنه يمكن أن يعتبر في المقلب الآخر تعبيراً عن إرادة خارقة لقوانين لطبيعة وتبادلاً في الأدوار بين الطبيعة وأحد موجوداتها، أي الإنسان.

لطالما احتار علماء الأحياء في إيجاد التعريف الأكثر ملاءمة للإنسان والذي يميزه عن باقي الكائنات الحية، ولعل أفضل التعاريف الممكنة هو ذلك الذي يرى في الإنسان الكائن الطبيعي الحي الأكثر قدرة على التكيف مع الطبيعة والكائن الوحيد ربما الذي استطاع إدراك قوانين الطبيعة والتعامل معها بما يصل إلى درجة الند للند أحياناً رغم إدراكه بأنه ليس إلا أحد موجوداتها. لقد استطاع ذلك الكائن الحي المسمى الإنسان أن يتدخل في مسارات الطبيعة في كثير من الأمور ويتحكم بها بدرجة أو بأخرى بما يعزز وجوده ويؤمن له الفرص الأفضل للعيش، وليست مجالات الهندسة الوراثية وعلوم الأحياء والطب والفيزياء والكيمياء سوى أمثلة على تلك القدرة.

إن إمكانية أن يقوم إنسان ما بإنهاء حياته بإرادته ليست إلا أحد الأمثلة على قدرة الإنسان على التدخل في مسار الطبيعة وتعديله كلياً بشكلٍ مناقضٍ تماماً، فالقانون الطبيعي الأول الذي يحكم ظاهرة الحياة هو استمرار الحياة بشكليها: الفردي والجماعي، الأول من خلال مقاومة العوامل المؤدية لانتهاء الحياة، والثاني من خلال بقاء النوع عبر التكاثر، والانتحار يقضي على الشكل الأول للحياة بشكل مباشر ويمتلك قدرة كامنة على القضاء على الشكل الثاني إذا ما تحول إلى ظاهرة عامة تشمل النوع البشري بأكمله؛ في هذه الحالة الأخيرة يمكن القول إن الانتحار يعتبر تدخلاً سلبياً في الطبيعة لأنه قد يؤدي في أكثر أشكاله عمومية – أي عندما يقرر جميع البشر الانتحار – إلى انقراض النوع البشري، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن وصف الانتحار بالسلبية يستند على الاعتبار الطبيعي بأن الحياة حدث إيجابي، ذلك الاعتبار الذي لا ندرك علته بل نعرف فقط أنه كذلك بحكم الطبيعة. أما الانتحار الفردي فلا أستطيع أن أراه إلا فعلاً إيجابياً من حيث هو قمة الإرادة والحرية والتمرد على قوانين الطبيعة، وهذا ليس حكم قيمة أخلاقياً على فعل الانتحار بل هو حكم من منظور طبيعي يثمن في الإنسان قدرته على مواجهة الطبيعة لدرجة تصل حتى مناقضتها تماماً، تلك القدرة التي تمنحه تفرده وخصوصيته بين الكائنات الحية.       

 

مواضيع لها علاقة:

الروحانية والجينات

الشيخوخة... ونظرية التطور

الطبيعة...وقوانين المجتمع (غشاء البكارة)